احتدمَ الصراع بين أفكاري من جديد، وبلغ التوتر أوجه، أضحى الواقع المرير يحتم على ريشتي التمرد مرة أخرى، التمرد ضد الواقع الظالم، لكشف المحجوب واستنطاق الخيال والسفر عبر الزمن، للوقوف على الحق والبرهان، ولو في عالم افتراضي يُفضح فيه الجور والطغيان.
هذه المرة وقع الاختيار على شخصية جديدة
لا يختلف واقعها عن واقع شخصية "موحى داني" و"عْلي اوالطَّالب"، فالعامل المُشترك بينهم في مقام الدنيا
هو الشقاء، والتمسك بحبلِ الحياة أمل لا يفارقهم.
شخصيتنا هي
"موحى أو المختار"، شابٌ في مقتضبِ العمر، ينحدر من منطقة تودغى العليا بإغرم نايْتْ سيدي عْلي اوبْراهيم، بمقربة من دوار إيماريغْنْ،
المكان المعروف بعين السمك المقدس، شاب ذو بشرةٍ سمراء، لَسعته أشعة الشمس الحارقة
في مختلف الفصول، صيفا وشتاء، ربيعا وخريفا، يحب التجول والبحث عن السيجارة أينما
كانت، فهو يستنشقها على بعد أميالٍ وأميال، كما تستنشق البعوضة دم الإنسان على
مسافة غير محدودة، تنهار قِواهُ عندما يشم رائحتها، خاصة ذاك النوع الرديئ الذي
تشبه رائحته روث الأبقار اليابس(كَازَا)، لا يفرق بين وضح النهار وبزوغ الفجر، فالوقت عنده سيان، والأيام واحدة، هَمه
جمع بقايا السجائر المنثورة على الأرض، (لْبُونَاتْ) يواصل البحث عنها حتى يحدودب ظهره وتَنهار
قِواه، فَيركن إلى جنب الحائط (دَّاوْ اوكَادِير) ليستكين للراحة ويستجمع أنفاسه من جديد، فَمُ
موحى يشبه جحر الفأر، يخيم عليه اللون الأسود، كأنك تنظر إلى عمق المغارة في ظلام حالك،
عندما تمعن النظر فيه لا تكاد ترى سوى نقطة صغيرة بيضاء، أشبه بالذرة التي يخلفها
شعاع الشمس في رابعة النهار، فلم يتبق من فمه سوى سنة واحدة أو سنتين، والباقي في
جوف الفرا، ما لم يفسده التدخين أفسده الدهر بمحنه، وفَم المختار شاخ قبل أوانه،
وودع الشباب مبكرا، فلم يتبق بداخله سوى لسان طويل يمضغه موحى يمينا وشمالا ويتأسف
على أيام الشباب والفتوة، " إِيهْ إِيدَّا إِيمِينْوْ يَاسُوسْ" " إِيكَّا تِفْريتْ " أُورْنْسَامحْ إِزْمَانْ "، وقد دفعتني شيطنتي يوما أن سألته بأسلوب تهكمي: ماذا تأكل يا موحى؟ مَاسْتْتْشَاتْ
أَمُوحَى؟ فأجابني قائلا " دَاتْتْشَاغْ تُوغْمَاسْ "، فخطفت منه الحديث مرة أخرى وسألته: وَلَكِنْ هَاتْ وَالُو غُورْكْ تُوغْمَاسْ
أَمُوحَى، فأجابني بأسلوب فيه نرفزة وقلق " أَوَمَانِي
تُوغْمَاسْ أُورْدْ اِقِّمِي خْسْ إِلْسْ "، فاستشعرت
من خلال حديثي معه أنه شاب كُسرت أحلامه وتَبددت آماله، إلا أنه راضٍ بالمكتوب
ومؤمن بالقدر.
"موحى أوالمختار" رجلٌ نحيفٌ بمحن الدهر، ذو بنيةٍ نحيلة،
تغطي وجهه شعيرات متناثرة من زغب لحية سوداء، واحدة فوق وأخرى تحت، توحي بأن الرجل
تناثرت أفكاره وفقد بوصلته في الحياة، يرتدي في غالب الأحيان سروالا أزرق من نوع " دّْجِينْزْ "، يشده أحيانا بحزام رقيق حول خصره النحيف
الذي يشبه بطن الحفار (أَعْفَّارْ)، وأحيانا يشده بخيط أزرق محكم بالعقد (إِفِيلُو
أَسْمَاوِيْ) تحسبًا للسقوط، ومخافةَ زوبعة الرياح التي
بإمكانها أن تُسقط سرواله، ويسقط معها أوألمختار نفسه لخفة وزنهما،
فتهوي بهما في مكان سحيق، يرتدي معه قميصا فضفاضا يصل إلى حد الركبة " لْقَمِيجَة "، لا يدل على أي فن من فنون اللبس (الكلاسيكي أو الحديث أو المعاصر)، وإنما
يستر بها عورته، ويتدفأ بداخلها كعصفور لم يرب الريش بعد، مشيته بطيئة كمشية
السلحفاة، " وحدة وحدة " فهو مُدركٌ أنه لا سبيل للعجلة والسرعة، فقد
فات أوان كل شيء وفاته القطار، " مَادَاكّْ
إِزّْرْبَنْ موحى، يُوتْ يُوتْ "، فلا داعي
للهرولة وتمديد الخطوات، لاسيما داخل بلد متأخر بسنوات وسنوات، ولازال يغوص في
شخيره وغطيطه، إذا فرويدا رويدا، فموحى لن يصل، ولن يطل على خط الوصول حتى.
يعيش موحى أولمختار حياته على نمط واحد ألفه منذ زمن بعيد، التجول بين الأحياء
والأزقة، وطرق أبواب المنازل لمن أراد أن يجود عليه بقليل من الخبز والشاي، رغم
أنه ليس مسرفا في الأكل، بقدر ما هو مسرف في تدخين السجائر، يقطع يوميا مسافات
وأميال مشيا على رجليه، من أيْتْ سيدي علي اوبْراهيم صوب تنغير، بحثا عن مصدر رزقه، وبحثا
عن السيجارة أينما وجدت، ينطلق موحى من مسقط رأسه إغرم نايت سيدي علي اوبراهيم وكله فرح
وسعادة، لا يبالي بوجود هذا وذاك، لأن النظرة التشيئية التي يحملها الغير تجاوزها
موحى بحريته اللامقيدة، وهو يُبرهن على ذلك حينما يغوص في ملحمة أحيدوس، ويغني
معزوفاته بصوتٍ عالٍ مسموع وبألحان شجية، يُتقن الغناء جيدا، خاصة الأغاني
الأمازيغية، فتارة يغني لمحمد رويشة ومحمد مغني، وتارة يستأنس بإِزْلَانْ
نُوحِيدُوسْ، وبيده قنينة بلاستكية حمراء اللون " تَالْبِيدُوتْ
تَازْكَّاخْتْ " يضبط بها الإيقاع وينسي بها هموم الدنيا،
لا يبالي بالمارة وأعين الناظرين، لأنه يتمتع بالعقل والحكمة، وفي أمثاله قال
حكماء الإغريق: " المجنون هو الذي فقد كل شيء إلا عقله "، فيغني لساعات طوال دون كل ومل، لا تهمه
الدنيا وما قَرَّبَ إليها من قول وعمل، " إِهْنَّاتْ
رْبِّي غُورْ موحى، أُونَّايْرَانْ أَزْعْطُوطْ تَارْوَاسْ مَايْسْ " ومتى أحس بالتعب قد أضناه يلوح بيده
للسيارة بعبارته: " أَهْيَا أَهْياَ، أَسْيَاغْنْ أَعْمِّي
الحَاجّْ، " الناس عنده كلهم حجاج، رغم أن الكثير منهم
لم يعرفُ للمزارِ طريقا، وهو يستعمل عبارته هاته ليكسب وِد الآخر وعطفه، ويقلص من
مسافة المشي قدر الإمكان، ومن السيارة من يتوقف لالتقاطه وكسب الأجر، فيرمي به في
مؤخرة العربة ويغلق فمه وأنفه، ويرش العطر في الأرجاء لرائحة عرقه القوية، فيضيع
أجره دون أن يدري أن الإنسان بالإشارة يفهم، ومنهم من لا يكترث لأمره ويمر عليه
مرور الكرام، لا نظرة لوجهه ولا استجابة لندائه، ماعدا استعمال المنبه الصوتي
لإخافته.
يُغني أولمختار ويُدخن، وعَيناه نحو الأسفل
تحفران الأرض، تَرقُبًا لأي سيجارة بالية يمكن إشعال فتيلها من جديد، ولو لِشَم رائحتها
كأضعف الإيمان، لا يكترث موحى بالوقت، فعقارب الساعة لديه متساوية، لا فرق بين
الصريم والضياء، متى أحس بالجوع يمزق أحشائه طرق أي باب يصادفه، " إِسِيلاَّ كَانْ وَاتَايْ "، وكَمْ من عائلة أيقظها في جوف الليل، وكم
من مجنون وبَخَه وصرخ في وجهه" دُّو أَيَامْخْيُوطْ عَايْنْ مَايْكْ "، فيصمت موحى العاقل ولا يجيبه، فكفى
بالصمت جوابا، يثني رأسه نحو الأسفل ويكمل السير بحثا عن مصدر سعادته (السيجارة)، على أنغام بتهوفن وإيقاعات الموسيقار
فاجنر، لكن بعباراتٍ وكلماتٍ أمازيغيةٍ خالصة، مستحضرا بذلك أفكار الفلسفة
الشوبنهاورية " الموسيقى وحدها هي التي تعبر عن الوجود في
وحدته المطلقة ".
أولمختار ضحية من ضحايا سخط الواقع وظلم
المجتمع وغدر الزمان، ضاعَ حلم الحياة من يبن يديه كما ضاع شبابه في غير أوانه، غدر
به الزمان ولم يختر له حظا وافرا، رغم أن اسمه هو أولْمختار، ويقال أن لكل امرئ من
اسمه نصيب، إلا أن أولْمختار لم يتركه الزمان ليختار، ولم يفتح له باب الخيار
والاختيار، ولم يجعله من المصطفين الأخيار، صب عليه جم غضبه، وغدر به داخل بلد
مخنث يتمرغ في دياجير الجهل ودركات الحضيض، لا يبالي بقيمة الإنسان، لأنه
ببساطة هو والحيوان سواء، ليظل أولمختار وأمثاله يتأففون على الزمان الذي أدَلهم،
ويشكون بثهم وحزنهم إلى الله، ومرغمين على العيش تحت كنف مجتمعهم البسيط، دون حول
لهم ولا قوة، إلا أنهم مع ذلك فرحين بما أتاهم الله، سعداء في حياتهم، لا مشاكل َ تعكر صفو حياتهم، ولا مشاريعَ تشوش راحةَ بالهم، وكم مِنْ "أولمختار" لسعه الزمان لكن دون
وعي منه، وكم من "ألمختار" موجود في مجتمعنا، بل نستطيع أن نجزم أننا مجتمع أولمختاري
أبا عن جد، فمن لا يحرك ساكنا ويسكت عن المنكر والجور فهو أحق أن يسمى أولْمْخْتار.
عباس زهير